يُناقش كتاب “الفن والسلطة”، الصادر عن وزارة الثقافة والفنون والتراث القطرية، وهو تأليف جماعي، من إعداد وتحرير د. مصطفى عيسى، محاور في غاية الأهمية، من بينها: تباينات الديني والأخلاقي والفني ودلالة الثقافي في الشكل الفني الجديد، وسلطة الفن بمواجهة مثلث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وجدل الأنا والنحن في تشكيل الذوق والتذوق وثقافة الصورة الجديدة للفن، وتسليع الفن والتاريخ وجدل التشكيل للوعي الفني الراهن، والفن والنقد ومبادلات السلطة، والفنون البصرية وسلطة التمدد خارج حدود التشكيل المألوف، علاوة على بداهة معنى تاريخ الفن.
    وينطلق الكتاب من مقولة أن “الفن بذاته يفتن كقيمة، ورمز، ودلالة، باعتباره فعلًا جماليًّا، جوهره الاكتشاف والإبداع الذي يتأسس في جزء كبير منه على وهج الخيال الإنساني، وباعتباره أثرًا يقبل بالخلود بيننا، وكحقيقة يجب تبجيلها”، ولذلك خلص المشاركون في الكتاب، من متخصصين عرب لهم باع كبير في التنظير الإبداعي عامة، وفي مجال الفنون خاصة، إلى أنه “يبقى للفن سلطته التي يمارسها من داخله، ويسقطها على عيوننا، حال أن مثلت الأخيرة كجزء من بدن المرء، فتبصر المرئي، وتستبصر اللامرئي، مثلما له من الانفعالات والأحاسيس ما يتوافق مع إمكانية الرفض والقبول بهذا الأثر والاكتشاف”، ولذلك فالفن “سلطة بمواجهة سلطة موازية لا يمكن لأي منهما نفي الآخر، ففي الأولى يجتمع الذهني والحسّي الذي هو منّا أيضًا، ومن الأشياء من حولنا”.
    وليس ذلك فحسب، فمنهم من يذهب إلى أن للفن سلطاتٍ قد تتجاوز القوانين الوضعية، وتلامس التابو والمقدس، أي “سطوة الديني، وفصاحة الأخلاقي، وفتنة السياسي والاجتماعي، وإغراءات الاقتصادي وغيرها”، بينما يذهب فريق آخر إلى اقتصار سلطة الفن في “التأثير على الحدث والسلوك والأفكار والانفعالات، وما تخلفه من نتائج وتبعات نسبية التأثير”، بحيث تختلف باختلاف الزمكان.
    وثمة مسارات وأنساق قد تتفق، أو تختلف في ماهية الفن وسلطته في المقابل، كونها تحتكم في الأساس كما هو إلى النوازع والأهواء، لذلك كان للفن والسلطة، حتى في أكثر نقاطهما حساسيّة، أن يتبادلا المعنى والقيمة، والفعل ورد الفعل، والأثر والنتيجة.

    “للفن سلطات قد تتجاوز القوانين الوضعية، وتلامس التابو والمقدس، أي “سطوة الديني، وفصاحة الأخلاقي، وفتنة السياسي والاجتماعي، وإغراءات الاقتصادي وغيرها””

    ويؤكد المشاركون في كتاب “الفن والسلطة” على سلطة الفن، التي يمكن تحريكها في مساحات من جدل لا ينتهي، باعتبار الفن كان وسيبقى من علامات الوجود الإنساني ودلالة تفوقه، وبرهان خسارته في الوقت ذاته.
    شارك في الكتاب المتفرّد كل من التشكيلي والباحث التونسي الحبيب بن بيده، وأستاذ التصوير المصري السيد القماش، والفنانة المصرية أمل نصر الحاصلة أيضًا على درجة الدكتوراة في فلسفة الفنون الجميلة، والفنان البصري والباحث السوري بشار العيسى، والفنان سامر بن عامر، الأمين العام السابق لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين، والفنان والأكاديمي العراقي سعد القصاب، والفنان والأكاديمي التونسي سمير التريكي، والشاعر اللبناني شربل داغر، والناقد الفني والأكاديمي السوري طلال معلا، والشاعر والفنان والناقد العراقي فاروق يوسف، وأستاذ الفن الأردني مازن عصفور، والكاتب والناقد السعودي محمد العباس، والناقد والأكاديمي التونسي محمد بن حمودة، والناقد والأكاديمي المغربي محمد نور الدين أفاية، وخبير الآثار العراقي منير يوسف طه، إضافة إلى الباحث والأكاديمي المصري د. مصطفى عيسى.
    ويرى مصطفى عيسى في مشاركته أن سلطة الفن شكل من أشكال سلطة المثقف باعتباره وجهًا فصيحًا للنخبة في أي مجتمع، لافتًا إلى أن تعدد الراهن ينطوي على تعددٍ للجمالي، ما يجعل سلطة الفن في ديمومة، فلا تفقد أثرها بسهولة، مُعرجًا على البعد السياسي الذي يحرك سياق المشهد الفني، وبيده مفاتيح وخيوط قابلة للجذب والإبهار، على حد تعبيره، حتى غدا المشهد مُعلقًا ببديهية لا يمكن فصلها عن “غموض ما يدور في القاعات المغلقة وتدابير الساسة”، في حين أن للفن سلطة يمكن استغلالها أيديولوجيًا في توسيع رقعة الهيمنة السياسية، غير غافل لدور السياسة الطاغي في تحديد اتجاهات المتاحف الكبرى، وصالات المزادات، لصالحها ولصالح سوق المال والاقتصاد، بحيث يضحي الجمالي رهنًا بحساسية تتعالى على الإبداع الفني ذاته، ما أفقد الأخير “بعضًا من رونقه”.
    أما بشار العيسى فيرى أن أكثر من علاقة جدلية تدور بين إبداعات الفنانين وأخلاقهم والثقافة والأفكار التي تسود عصرهم، “إذ يتكامل عمل الفنان والشرائع التي تستهدف إعادة بناء أخلاق وذائقة العامة لمواجهة الكوارث والفساد والإكراه، في التوق إلى إقامة شرائع العدل والحرية والجمال، فالفنان مشرّع يقيم بوسائله الخاصة معادلاته في التعبير عن الذاتي في صيغة يحتفظ فيها للعام بحضور يثير في المشاهد تمجيد الجيّد والصادق”، ومن هنا تأتى ارتباط الفن تفاعليًا في كل العصور بالمعارف والمفاهيم الإيجابية للأديان والفلسفة والظواهر الاجتماعية، كما استعانت هذه بقدرة الفن على التأثير في الناس، إذ على مدى قرون، كان الفن الوسيلة التي تواصل بها الكهنوت مع العامة، بالنُصُب والرموز المجسمة، أو المصورة، والأيقونات المقدسة، والمخطوطات المزوقة.
    وأكدت أمل نصر على أن للفن وسلطة العقيدة تاريخًا طويلًا، حيث يدخلان معًا في علاقة تلازمية بندولية الطابع، بداية من سلطة المُعتقد السحري، وسلطة الكاهن، أو العراف، في المجتمعات البدائية التي اكتسبها من امتلاكه لحكمة وتراث ومعارف جماعته، وتأثيره فيها من هذا المنطلق، ثم سلطة القوى المجهولة في مرحلة اكتشاف الإنسان للزراعة، حين بدأ الشعور بأن هنالك قوى أخرى تتحكم في مصيره، ومرتبطة بفكرة المجهول والغامض، والقدرات الخارقة للطبيعة، فبات الفنان هنا تحت سلطة الالتزام تجاه مبادئ وعقائد يوجه إليها حاسته الجمالية، متحدثة عن سلطة الفن في المرحلة الكهنوتية وفي الفكر الإغريقي، ومن ثم العصر المسيحي، وعصر النهضة، حيث ظهرت فكرة “وحدانية الفنان العبقري وعناده، ومثلت اتجاهًا فكريًا يظهر لأول مرة، وذلك للطبيعة الديناميكية لعصر النهضة، والتي أتاحت أن يُقدم للفرد فرصًا أفضل من تلك الي كانت تقدمها الثقافة المبنية على سلطة الكنيسة في العصور الوسطى”، لافتة إلى أنه مع ازدياد احتياج أصحاب السلطة إلى الدعاية ارتفع الطلب على “سوق الفن” بشكل فاق ما كان العرض يلبّيه في الماضي، وإلى أنه مع نمو الطبقة البرجوازية، وما يتصل بها من مجتمعات، بدأت فكرة الفنان المستقل عن السلطة تظهر بشكل أكثر وضوحًا، مع تعدد مفاهيم السلطة ما بين دينية، وسياسية، ومجتمعية، واقتصادية، وغيرها.
    وخلص طلال معلا إلى أن توجيه روح الإبداع بعيدًا عن الخيارات الثقافية والفنية المحلية مهمة تكرّسها “سلطة ما بعد الحداثة، التي نشهدها في العالم العربي اليوم”، والتي “لا تعير بالًا لمضمون، أو محتوى، أو قيمة، أو مستوى الجمالي”، كما لفت إلى أن آليات الإنتاج الثقافي والفني برمتها لا تهم القيّمين على تنظيم الفعاليات، كونهم يرونها شكلًا ومضمونًا نموذجًا مصغرًا لفكرة تعدد الجنسيّات في الشركات الاحتكارية التي تمزق كل شيء في سعيها إلى الربح، فهي إذ تجمع الخبرات من كل موقع في مكان محدّد، إنما تقدم اختياراتها المفضلة، باعتبارها أمثلة غايتها القصوى إحداث الفوضى والسخرية في كل ما عداها، بالإضافة إلى عدم تسامحها مع الواقع الفني للمحترفات الفنيّة المحلية.

    “يمكن النظر إلى كتاب “الفن والسلطة”، الذي هو عبارة عن مجموعة دراسات محكمة ومعمقة لعدد من الباحثين والنقاد والفنانين والمبدعين العرب، كعمل تأسيسي غاية في الأهمية، يمكن البناء عليه”

    وما يحدث، حسب معلا، ليس صراعًا بين طرفين حول القضايا الجذرية العميقة التي تقتضي التطوير والإصلاح، وإنما هو ضرب من التسلط الذي يشبه الحرب على الاختبار الفني الممتد في الحضارات والتاريخ والحياة، مستفيدين في بعض الأحيان من صورة النكهة المحلية التي تنمّط اقتراحاتهم لمفهوم الحرية، أو الديمقراطية، لابتكار مزيد من التسلط على قنوات الإنتاج الثقافي والفني، في محاولة لفرض مفهوم التكتلات التجارية الثقافية المعولمة عليها، والذي يفرض نموذج الحياة الثقافية التي يرونها.
    وفي الإطار ذاته، أشار معلا إلى امتداد ضغط الشركات المهتمة بتجارة الأعمال الفنية “للسيطرة على ما تبقى من فنوننا باعتبارها سلعتها الأساسية، تلك التي تختارها بدقة، ليس وفق معيارية محتواها، وإنما من خلال قابليتها للتسويق… وعلى الرغم من أن كثيرًا من الفنانين الذي تم الاتجار بأعمالهم الفنية في أسواق المضاربات هم من الذي يرون أن أعمالهم تحمل رؤاهم المعرفية، فإنهم لا يعرفون أن مهمتهم تنتهي في هذه الحدود، حيث تخضع أعمالهم للاتجار بما تحتويه من هذه المعرفة، وهي مهنة لطالما أتقنتها تلك الشركات في إطار المتغيرات التي طاولت الفن من قبل الرأسمالية العابرة للحدود”.
    يمكن النظر إلى كتاب “الفن والسلطة”، الذي هو عبارة عن مجموعة دراسات محكمة ومعمقة لعدد من الباحثين والنقاد والفنانين والمبدعين العرب، كعمل تأسيسي غاية في الأهمية، يمكن البناء عليه، لإجراء دراسات معمقة في كل محور من محاوره على حدة، خاصة مع تطوّر الفن تبعًا للتطورات التكنولوجية المتسارعة، وتأثير العلاقة السلطوية التي بدأت تتشكل للآلة، متمثلة بالذكاء الاصطناعي حديثًا، على الفن، وما إذا كان ثمة علاقة سلطوية للفن على مثل هكذا تقنيات، وغيرها من المحاور المُستجدة تبعًا للتحولات السياسية والحروب الإقليمية والعالمية، وغير ذلك.