عندما نجا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من محاولة الاغتيال في إحدى مزارع ولاية بنسلفانيا، أوقف فريق حمايته الذي كان يسحبه إلى موكبه لإجلائه من المكان لثوانٍ من أجل التوجّه نحو جمهوره قائلاً: «قاتلوا! قاتلوا! قاتلوا!». كثرٌ تساءلوا يومها عمّا يقصد ترامب بـ«قاتلوا». قاتِلوا مَن ومتى وأين؟ وفي جوٍّ داخلي متوتر لم تشهده الولايات المتّحدة الأميركية منذ عقود، ذهب ذهن كثيرين نحو تفسيره بأنّه دعوة إلى الحرب الأهلية المنتظرة في بلاد العمّ سام. لكن دعوة ترامب للقتال لم تكن إلا هتافاً غريزيّاً مزروعاً فيه وفي كل الأميركيين منذ صغرهم وعبّر عنه عندما كان على بعد مليمترات من لقاء خالقه.
    تشغل الرياضة حيّزاً مهمّاً من الثقافة الأميركية، وقد يبدو ذلك مفاجئاً كون الولايات المتّحدة تتصدّر بلاد العالم بنسبة سكّانها الذين يعانون من السُّمنة المفرطة، لكنّ الاهتمام بالرياضة لا يعني ممارستها. الرياضة هي جزء أساسي من الترفيه والإلهاء الأميركي تماماً وتؤدّي نفس الوظيفة التي كانت تؤدّيها العروض التي كان يقيمها القيصر في مدرّج روما القديم، ومعظم المهتمّين بالرياضة هم المشاهدون… والمعلنون الذين يريدونهم أن يستهلكوا منتجاتهم. الإعلانات لم تتغيّر منذ عقود، ففي كل فاصل، هناك إعلان لمطعم وجبات سريعة لا تؤكل ولا تهضم، يليها إعلان لأدوية للحرقة وعسر الهضم، وآخر لشركة تأمين صحي، ولا يغيب جهاز التعبئة العسكرية في البنتاغون الذي يبحث دائماً عن منتسبين جدد إلى الفرق المختلفة في القوات المسلحة الأميركية. لا يقتصر حضور المباريات الرياضية ومشاهدتها على الدوريات المحترفة، بل يمتد إلى الرياضات المدرسية والجامعية، وأكبر مدرّجات العالم اليوم هي تلك التي تحيط بالملاعب التي تستضيف مباريات كرة القدم الأميركية الجامعية، حيث يوجد في حرم جامعات مثل ميشيغان وتكساس وألاباما وغيرها ملاعب تتّسع مدرّجاتها لأكثر من مئة ألف مشجّع. جزء من هذه الثقافة الرياضية هي أن لكلّ من هذه الجامعات والمدارس «أغنية قتالية» ومعظمها هي عبارة عن تهجئة اسم المدرسة أو الجامعة على ألحان تتشابه كثيراً، تعزفها الفرقة الموسيقية للمدرسة وتختتم غالباً بكلمة تتردّد ثلاث مرّات «قاتلوا! قاتلوا! قاتلوا!». الفرقة الموسيقية دائمة الحضور في المدرّجات في المباريات المدرسية والجامعية، فهي جزء ضروري من ثقافة الاستهلاك الرياضي.
    لكنّ هناك عنصراً تسليعياً آخر وهو موجودٌ حصراً في ثقافة الرياضة الأميركية. فرقة الهتّافين والهتّافات. وظيفة هؤلاء الابتسام الدائم وتحفيز الحضور على التشجيع والهتاف خلال المباراة. عدا عن «قاتلوا! قاتلوا! قاتلوا!»، يردّد الهتّافون كليشيهات أخرى مثل «العب يا فريق» و«اربح يا فريق» و«أحدثوا ضجة» و«دفاع»، أو بالأحرى «دي – فاع». لكنّ ما يميّز الهتّافين والهتّافات عن الفرقة الموسيقية والمشجّعين هو أنّهم يديرون ظهرهم للملعب، وبالتالي مجريات المباراة أثناء أدائهم لوظيفتهم. هم بالمبدأ يتوجّهون إلى الجمهور بهتافاتهم، لكنّ الجمهور باله بالمباراة ولا يبديهم أيّ اهتمام إلّا في لحظات الملل، أو خلال الأوقات المستقطعة خلال اللعبة التي يملأها البث التلفزيوني بإعلاناته. في بعض الأحيان، ترى عيون الجمهور مغرورقة بالدموع واللاعبين مضرّجين بالدماء، والهتّافين لا يغيّرون لا ابتسامتهم ولا هتافهم لأنهم لا يدركون ما يحصل خلفهم.
    الهيمنة الأميركية جعلت «ثقافتها» تغزو العالم المعولم، وبما أنّ لبنان معولم فهو ليس عصيّاً على هذا النوع من الغزو. لم تصلنا من الثقافة «الرياضية» الأميركية لا الفرقة الموسيقية ولا رياضة البيسبول (الحمد لله)، لكن تسرّبت إلينا محالّ الدجاج المقلي التي ترتفع طبقات عدة في مناطق عدة، وخاصة في جنوب لبنان، وجوقة من هتّافي «فريق أميركا». صحيحٌ أن الهتّافين يهتفون نفس الهتافات إن فاز فريقهم أو خسر، لكنّ الفرق بين هتّافي الفرق المدرسية والجامعية في أميركا من جهة، وهتّافي «فريق أميركا» من جهة أخرى، هو أن السابقين يعرفون أنهم ليسوا جزءاً من الفريق الذي ينافس في الميدان. أمّا هتّافو «فريق أميركا» في لبنان، فهم أيضاً ليسوا جزءاً من الفريق الذي ينافس في الميدان ويتوجّهون إلى جمهور لا يوليهم أيّ اهتمام إلّا عند الملل، لكنّ هذا لم يمنعهم من أن يتوّجوا أنفسهم بكأس البطولة، رغم أن المباراة ما زالت في شوطها الأول. ماذا يمكن القول لهؤلاء غير«قاتلوا! قاتلوا! قاتلوا!».
    * من أسرة «الأخبار»