منذ إصدارها الشِعريّ الأوّل “ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة” (منشورات المتوسط، 2018)، بدا جليًّا لدى الشاعرة السوريّة مناهل السهوي ذلك الشغف في النحت عميقًا في جوانب خفيّة من الحياة وتفاصيلها؛ ثمّة رصدٌ هادئ وغايةً في الإدهاش لتلك الهفوات الحميمة التي قد تصادفنا مرارًا في حياتنا اليوميّة بدون أن ننتبه لها أو نصغي إليها.
في كتابهِا الشِعريّ الجديد “لم تلمسْ نفسَها”، الصادر مؤخرًا عن دار كتب للنشر في بيروت وضمن سلسلة “إشراقات” الشعريّة التي يشرف عليها الشاعر السوري أدونيس، تمضي الشاعرة مناهل السهوي قدمًا وبمزيدٍ من الرويّة والأناة نحو هدفها المنشود؛ خصوصيّة التجربة والبحث عن صوتها الخاص والمُتفرّد، بعيدًا عن السطحيّة أو التقليد والتكرار المملّ. ثمّة لغةٌ جديدة ومُبتكرة على طول الصفحات، تقول: “يؤلمكِ جسدكِ/ كأنَّ ذئبًا عضّك طوال الليل/ لم يغرز أنيابه في لحمكِ/ رغبتِ لو فعل/ لكنّه خشي فقدانكِ/ فأن تعضّ فتاةً وحيدة كلّ ليلة/ أفضل من التهامها دفعة واحدة”.
الكتابة بسلاسةٍ وبمنتهى السرديّة في المقطع السابق، تقابلها الجُملة ذات البنية المحكمة، هو ما يميّز معظم قصائد هذا الكتاب.

كتابة الحبّ والرغبةِ
تكتب مناهل السهوي (من مواليد السويداء، 1991) بمنتهى الحبّ والرغبةِ؛ تكتب عن الحديقة الخلفيّة لحياتنا، عن تلك التفاصيل الدقيقة والمتناهية في الصغر، تكتب وكأنها تنفض الغبار عن ذكرياتنا وماضي “الأيّام” الجميلة. ثمّة نبرة صوفيّة شديدة الصفاء والتعلّق تطغى على أجواء القصائد. تقول: “كتبتُ عن الحب،/ الحريّة/ والحرب/ عن القسوة والترك./ كتبت عن النساء/ الرجال/ والحيوانات/ عن الرغبة والموت./ استخلصت من جوانب جسدي كلّ الكلام/ صنعت القصائد منّي/ استمرّت حياتي مثل ركض غزال”.
خلو المقطع السابق من الحشو أو أي زوائد لغويّة، عدا عن ذلك الانتقال الآلي الخاطف من سطرٍ لآخر، ثيمةٌ أخرى تضاف إلى الثيمات الرئيسة لقصائد “لم تلمسْ نفسَها”، والواقع في مائة صفحة من القطع المتوسط.

أنجيل النساء
تخيّم على محتوى “الكتاب” فكرةٌ تكاد تكون الوحيدة ألا وهي مناصرة هموم المرأة وشجونها، لكأنّه (الكتاب) سفر المرأة وكتاب سيرتها؛ سيرةُ الألم والأمل معًا. بدءًا من عنوان الكتاب “لم تلمسْ نفسَها”، مرورًا بعناوين القصائد، عنوانًا تلو الآخر، وصولًا إلى محتوى القصائد. حيثُ نقرأ- على سبيل المثال لا الحصر- هذه العناوين: “أركضُ نحوها”، “ماذا يدور في رأسكِ؟”، “وحوشٌ لا تعرفينها”، “أفكار خاطئة عن اللمس”، “للحم جسدكِ ضجّة”، “لم نفعل شيئًا لنغضبه”، “شجرة نساء حزينات”، و”كان جائعًا”.
من جهةٍ أخرى، تبرع الشاعرة في توظيف تقنيّات جماليّة عديدة تخصّ “الكتابة الجديدة” في البنية الأسلوبيّة لنصوصها، وهو ما يشي بالوصول إلى ذروة التحرّر من قيود الشِعر الكلاسيكيّة ورتابتها، الشاعرة هنا تُهندس قصيدتها مفردةً… مفردةْ، كما في قصيدة “فراش بارد” وفيها تقول:
“غصنٌ
اثنان
ثلاثة
اكتملت شجرة الكلام وصارت قصيدة؟
غصنٌ
اثنان
ثلاثة
اكتملت القصيدة وصارت بابًا
توصدينه
كما تغلق الوحيدة قدميها في وجه الليل”.
ما نجده في المقطع السابق هو “تخطي مواضعات اللغة بطريقة خاصة تمثل روح (القصيدة الجديدة) التي توظف تقنية الكتابة بشكل مغاير عن بقية الأشكال التعبيرية الأخرى”. طالما أنّ الشِعر، في أحد أبرز وجوهه، “محاولة هدم وبناء… وإعادة خلق للشكل والمضمون”.

مناهل السهوي: شاعرة وكاتبة وصحافية سوريّة، من مواليد السويداء عام 1991، درست الأدب الفرنسي في جامعة دمشق، تعمل في مجال الإعلام في بيروت حيثُ تقيم حاليًا.
حاصلة على جائزة الشارقة للإبداع العربي عن مسرحية “بطارية لمصباح اليد”، تُرجم عددٌ من قصائدها إلى التركية والألمانية واليابانية، وصدرت لها ضمن مجموعات مشتركة من مثل: “قاع النهر ليس رطبًا”، و”بورتريه للموت” المُترجم إلى الألمانية.
صدرت لها شِعرًا مجموعة “ثلاثون دقيقة في حافلة مفخخة” (2018)، والتي فازت بجائزة (توليولا) الإيطالية، فرع الأدب العربي، 2020-2021.