من جديد، تكرّر الحديث عن عمليات هدم تطال مباني أثرية في منطقة مقابر الإمام الشافعي وسط القاهرة بحجة بناء مشاريع مرورية لتطوير المنطقة عمرانيًا.

    انتقادات واسعة طالت هذه العمليات في بلدٍ يشتهر بالمباني التاريخية والمقابر القديمة، في ظل قرارات هدم عددٍ من الأضرحة والقباب التي تحمل قيمة تاريخية.

    كيف تغير مشاريع التطوير معالم مقابر الإمام الشافعي؟ وما أثرها على هذه المعالم التاريخية؟

    عمليات “تطوير” 

    منذ عام 1979، سجّلت منظمة اليونسكو منطقة القاهرة التاريخية كموقع تراثٍ عالميّ. ورغم أن هذا التصنيف شمل منطقة مقابر الإمام الشافعي، إلا أنه لم يحمها من التعرض للتلف بسبب المياه الجوفية التي تشكل تهديدًا على أساسات الكثير منها، كما باتت المنطقة منعزلة وملاذ لممارسات غير قانونية.

    وتضمُّ هذه المنطقة عددًا كبيرًا من مقابر فقهاء ووزراء وأدباء عاشوا في عصورٍ سابقة، خلال مشاريع التطوير الحالية تعرضت بعض هذه المقابر للهدم رغم المكانة الكبيرة لأصحابها في تاريخ مصر، آخرها مقبرة أحد قادة الثورة العرابية محمود سامي البارودي، وقبة “نام شاز قادين” مستولدة محمد علي، إحدى جواري محمد علي اللائي أنجبن منه أولادًا، وأم محمد عبدالحليم باشا ابنه الثاني.

    وبنَى هذه القبة الأمير محمد عبدالحليم فوق ضريح أمه خلال إقامته في مصر حيث كان الأحق بوراثة العرش بعد الخديوِ إسماعيل حتى نجح الأخير في تغيير نظام ولاية العهد وأسنده إلى أكبر أبنائه، الأمر الذي دفع محمد عبدالحليم للهرب إلى تركيا وعاش فيها حتى مات ودُفن بها.

    وفي 2019، بدأ الحديث عن إزالة أجزاء من مقابر الإمام الشافعي لأول مرة بمبرر تنفيذ أعمال توسعة أحد الطرق في هذه المنطقة. وحتى الآن، لم يتم الإعلان عن التفاصيل الكاملة لهذا المشروع في ظل تغيرها أكثر مرة، وعدم توفر خرائط رسمية تكشف مسارات الطرق والجسور المزمع إنشاؤها في المناطق التي ستُزال المقابر منها.

    ويصف رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار السابق، يوسف خليفة، في حديثه لـ”الحرة”، المنطقة بأنها “متحف مفتوح”، موضحًا أن “كل قبة وكل شاهد تقع في هذه المنطقة تمثّل قيمة كبرى وتملك طُرز معمارية لن نستطيع تعويضها مرة أخرى”، معتبرا أن إزالتها “جريمة”.

    ومن جانبه، يوضح الباحث في الآثار الإسلامية معاذ لافي لـ”الحرة”، أن بداية المشروع كانت عبر التخطيط لعمل سلسلة من الطرق والجسور لتيسير المرور في المنطقة وربطها بمحاور مرورية أخرى. وبجانب هذه المشاريع، سيجري بناء عددٍ من الميادين لإحداث عملية “تطوير” كبرى في المنطقة بأسرها.

    أما الباحث في التراث، ميشيل حنا، فيرى أن تصنيف هذه المنشآت كمقابر “لا يجعلها هدفًا سهلاً يُمكن هدمه دون عوائق”، مضيفا “الأهرامات نفسها وأغلب ما بقي لنا من الفراعنة بُنيت كمقابر”. 

    ويعتبر حنا أن “عشق المصريين لبناء مقابر ذات طرازات معمارية مميزة يرجع إلى اهتمامه القديم جدًا إلى الحياة الأخرى، وأن يكون له ضريح فاخر يُدفن فيه، عادة يتوارثها المصريون حتى اليوم”.

    وخلال حديثه لـ”الحرة”، أكد ميشيل أن القبة بمقابر الإمام الشافعي يتجاوز عمره 160 عامًا، ورغم ذلك لم يجر تصنيفها كأثر بسبب تقاعس المسؤولين في وزارة الآثار”، على حد قوله.

    ضجة سابقة

    ضجة مماثلة عرفتها مصر العام الماضي فور تداول صور هدم بعض المقابر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. 

    هذا السجال دفع الحكومة المصرية للإعلان عن تشكيل لجنة هندسية لمراجعة المشروع، يشرف عليها رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، ويرأسها وزير التعليم العالي، أيمن عاشور، بصحبة عددٍ من أساتذة العمارة والهندسة والتخطيط العمراني.

    وبعدها خفت الحديث عن موضوع هدم المقابر في ظل تزايد الانتقادات الموجّهة للمشروع، حتى عادت “البلدوزرات” للظهور من جديد في منطقة مقابر الإمام الشافعي، تم الشروع في إزالة المقابر بشكلٍ أعاد الاعتراضات حول جدوى كل هذه الإجراءات.

    وعقب ذلك، أعلن  وزير الثقافة، أحمد فؤاد هنو، وقف عمليات الهدم “بشكلٍ مؤقت”.

    “أحيانًا عندما يحدث غضب مجتمعي بسبب حدث كبير مثل هدم قبة مستولدة محمد علي، يقف الهدم لفترة محدودة ثم يعود مرة أخرى”، يقول ميشيل حنا.

    وبحسب لافي فإن عمليات التوقف عن المشروع كانت تقع لسبيين؛ الأول ورود “اعتراضات كبيرة” تُجبر القائمين على الأمر على وقف أعمال الهدم مؤقتًا، والثاني “وجود ظروف اقتصادية تمرُّ بها الدولة تمنعها من توفير التمويل اللازم لاستكمال هذا المشروع”.

    “دول كثيرة لا تملك تاريخًا، لا يعقل أن نهدمه بأنفسنا”، هذا موقف عضوة مجلس الشيوخ المصري وأستاذة الدراسات السياحية، كريسيتن عادل فتحي، الذي عبرت عنه حديثها مع “الحرة”، كاشفة أنه جرت مناقشة مقترح برلماني لنقل هذه القباب الأثرية إلى المتحف الإسلامي أو إلى أي مكان آخر بدلاً من هدمها.

    وتضيف “جميعنا تضايقنا عندما رأينا هذه المنشآت تُهدم، حتى لو لم تكن لها قيمة أثرية كبرى لكنها تبقى شاهدة على حقبة مهمة من تاريخنا، نحن المصريون اعتدنا الحفاظ على مقتنياتنا القديمة حتى لو كانت تخصُّ أقاربنا، فما بالك بمقابر أفراد صنعوا جزءًا من تاريخنا”.

    وتقول أستاذة الدراسات السياحية إنه “رغم أهمية هذه المنطقة الأثرية فإنها كانت مهجورة ونادرًا ما يزورها أحد”، مردفة “لم يكن هناك أحد يعرف مَن هي مستولدة محمد علي إلا عندما هُدمت”.

    وتتابع موضحة أن “جهود الدولة” لإقامة مشاريع التطوير “لا أحد يستطيع إنكارها”، داعيةً إلى “عدم إعطاء الموضوع أكبر من حجمه”.

    لكنها، في المقابل، شدّدت على أن عدم إجراء حوار مجتمعي بشأن هذا المشروع ساهم في حدوث هذه المشكلة، مؤكدة أنه كان سيُعطيه “لمسة ديمقراطية” وسيكون له صدى جيد في الشارع المصري.

    أبنية المئة عام

    في 1983، أصدرت مصر القانون رقم 117 لحماية الآثار ونصّت على اعتبار كل عقار “نتاج للحضارة المصرية أو الحضارات المتعاقبة” مرّ على بنائه 100 عام “أثرًا لا يُمكن هدمه”.

    انتقادات بعد هدم مقابر ومبان تاريخية بالقاهرة بسبب “احتياجات تنموية عاجلة”

    في طريقها لتحديث القاهرة القديمة، ردمت آليات الحفر والبناء، أحياء تاريخية، عرفت بها العاصمة المصرية، ومعها بعض المقابر التاريخية والمراكز الثقافية وورش العمل الحرفية، التي حكت لعقود تاريخ مصر العريق.

    وفي محاولة منهم لدعم هدم المقابر، يعتبر مُدافعون عن المشروع أن هذه الأبنية لم تمر عليها مائة عام، لذا “لا يُمكن تصنيفها أثرًا ولا يجوز إضفاء الحماية عليها بهذا الشكل”، بحسبهم.

    هذا ما ردّ عليه رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار  السابق، يوسف خليفة، حين كشف لـ”الحرة” أن القانون “لم يقصر تصنيف الأثر على مسألة الـ100 عام فقط، وإنما أتاح للوزير المختص الحرية لعدم التقيد بهذه المدة الزمنية مع المباني ذات الطُرُز المعمارية المميزة أو لو كان صاحبها له أهمية سياسة وثقافية عندها يُعتبر منزله أو مقبرته أثر يجب ألا يُهدم”.

    وأضاف خليفة أن “معظم عمارات القاهرة الخديوية وشوارع وسط البلد القديمة لم يمر عليها 100سنة”، متسائلا “هل يجوز هدمها هي الأخرى؟”.

    وهنا تبرز مطالب كثيرين بالحفاظ على هذه المقابر، إما بالإبقاء عليها أو نقلها.

    مقترح نقل المقابر

    مقترح عضوة مجلس الشيوخ المصري، كريسيتن عادل فتحي، بنقل المقابر  كان قد نصَّ عليه إعلان لوزير الثقافة بتوقيف الهدم لحين دراسة تحسم بين خياري الإبقاء على الأضرحة أو نقلها بعيدًا عن المشروع، وهي الخطوة التي وصفتها عضوة مجلس الشيوخ بأنها “قد تكون حدثت تهدئة للشارع”.

    وخلال حديثه لـ”الحرة”، يدعم رئيس قطاع الآثار المصرية بوزارة الآثار  السابق، يوسف خليفة، مقترح النقل معتبرا أن “أقل ما كان يُمكن عمله في هذه المنطقة هو نقل هذه الأضرحة إلى منطقة أخرى”.

    لكن هل خيار النقل قابل عمليا للتنفيذ؟، خليفة يعتبر ذلك ممكنا، قائلا “هو أمر يُمكن تنفيذه هندسيًا، وحتى لو فقدت في هذه العمليات 20 في المئة أو 30 في المئة منه لكن سيحافظ عليها من الضياع”.

    ويضيف المتحدث “بموجب قانون المنفعة العامة، أصبح من الممكن إزالة أي شيء لصالح تنفيذ المشروعات الكبيرة.. نعم يمكننا إزالة عمارة أو مساجد حديثة، لكن هذا تراث لا يُعوض”.

    وتابع خليفة أن مشاريع النقل “لو كانت قد طُرحت على أيٍّ من البعثات الأجنبية العاملة في مصر من الوارد جدًا أن تتبرع بالتنفيذ على نفقتها دون أن تكلفنا شيئًا حتى تتفاخر في سيرتها الذاتية بمشاركتها في مثل هذه النوعية من المشاريع”.

    في المقابل، يعارض الباحث في الآثار الإسلامية معاذ لافي خيار النقل باعتبار أن العملية قد “تُنزع الأثر من سياقها”، موضحًا “القرافة (المقبرة) عبارة عن نسيج عمراني، تُشكل الشوارع والبيوت والمباني والناس والحيوانات منظومة متجانسة الأفضل تركه كما هو دون أي تدخل أو تطويره بشكل جماعي يحافظ على باقي العناصر”.

    ويدعم لافي، في المقابل، خيار الحفاظ على هذه الأبنية، قائلا إن أهمية الإبقاء على الأضرحة “ترجع لأمرين؛ أولهما أن أصحابها اشتروها من الدولة بموجب القانون وأقاموا عليها مقابر عائلاتهم، لذا فإن من حقهم إبقائها كما هي حتى لو كانوا أشخاصًا مغمورين لم يفعلوا شيئًا مهماً في التاريخ، لأنها أملاكهم الخاصة ولا يجوز الاستيلاء عليها عنوة”.

    أما السبب الثاني، وفق لافي، فهو أن “هذه القباب مهمة تاريخيًا لأنها تعبّر عن طرازات معمارية لم تعد موجودة لأنها تعطينا لمحة عن توجه الدولة المصرية في هذا الوقت التي كانت تحاول خلع العباءة العثمانية وتبحث لنفسها عن هوية بديلة، أحد هذه النماذج (New mamluk style) قائم عليه قسم كامل في معهد ماساتشوستس الأميركي للتكنولجيا لتأريخها في مصر وباقي أنحاء العالم”

    وبحسب لافي فإن “القرافة” تعدُّ “مصدرًا للتأريخ مثلها مثل الكتب، بل إنها قد تتفوق عليها في بعض الأحيان حينما تمنحنا معلومات لم يسبق تدوينها في أي دراسات. مثلاً، حُفر على شاهد قبر محمود البارودي أبيات شعر لم تُكتب في دواوينه ولولا وجودها بالقبر لم نكن لنعرف بوجودها”.